تمر ..... و لله الأمر
صيف السنة الماضية
ذهبت إلى سوق السيارات برفقة أحد أصدقائي ليشتري سيارة مستعملة ، و هو مكان مفتوح
يكتظ بالسيارات يومي الأحد و الجمعة من كل أسبوع ، و كان اليوم الجمعة و كان شديد
الحرارة و تعامدت الشمس فوق رؤوسنا و فوق أجساد السيارات المعدنية و التي لم تقصر
في عكس أشعة الشمس علينا ، و لم يكن أمامنا أي مكان مظلل نستطيع اللجوء إليه و بدأ
يصيبنا الإحباط ، ووسط هذا الصخب إذا بمنادي ينادي بما له وقع مختلف عن لغة
الأرقام و اشكال السيارات و ألوانها البراقة و لكنها كانت أكثر تأثيرا في حالنا آن
ذاك وهي .... " تمر و لله اﻷمر
."
هو بائع متجول في خريف العمر يبيع مشروب التمر الهندي
المثلج مناديا " تمر و لله اﻷمر " و لا أستطيع أن أصف شعوري وقتها و
لكني أدركت لحظتها ما معنى أن يقترن العمل ( تمر ) بالعبادة ( و لله اﻷمر ) ، و
استطاع هذا المشروب أن يخرجنا تماما من هذه اﻷجواء المحيطة بل وجهنا هذا العمل
المتقن إلى التدبر في شق العبارة الثاني ( و لله اﻷمر ) و الذي أخرجنا بدوره من
حالة الإحباط الذي أصابنا و جعلنا أكثر يقينا في العثور على مبتغانا , و هكذا هي
معظم الحضارات الإنسانية و المعمارية قامت على هذه الجملة الرائعة ذات شقي العمل و
العبادة.
دعوني أوضح أن مقالي هذا لا
يقتصر على الاعتقاد المتعارف عليه ( العمل عبادة ) و هو إيمان المرء أن عمله أيا
كانت ماهيته في حد ذاته عبادة ، و لكنه يمتد لدرجة أرقى و هو مفهوم العمل للعبادة هو
أن يعمل المرء عملا ليس مقصده اﻷول رزقا دنيويا بل يقصد به تقربا إلى الله ، و على
سبيل المثال نجد العامل و إن قلت درجة ثقافته يعطي أفضل ما عنده من حرفة للمباني
الدينية و نجد عبارة تتكرر على ألسنتهم باستمرار ( يا بيه انا ماأخرش حاجة على بيت
ربنا أبدا) ، بل نجد أن معظم المكاتب الهندسية الاستشارية تعطي اهتماما شديدا
لمشروعات المباني الدينية و كثيرا ما ترفض أن تتقاضى مبالغ مالية نظير التصميم أو
الإشراف و هكذا نرى الامتزاج الواضح بين احساس أن هذا العمل مختلف و مهم ﻷنه مقدم
إلى الإله و بالتالي يتحقق مفهوم العمل للعبادة.
هناك أمثلة كثيرة من التاريخ المعماري توضح أن أعظم
الحضارات المعمارية و المباني التراثية قامت على هذه الفكرة و هي ما أجمل أن تكون
أعمالنا مصبوغة بصبغة العبادة و نبدأ بإعطاء مثال إلى حضارات ما قبل الأديان
السماوية مثل العمارة المصرية القديمة ، فكان الإنسان المصري القديم يبني المساكن
من خامات مستهلكة مثل الطوب اللبن و المحروق التي لم يتبقى منها إلا الأطلال و لكن
نظرا لاهتمام المصريين القدماء بالدين كما ذكر هيرودوت فالمصري هو نفسه من اهتم
بالعمارة الجنائزية الخالدة حتى الآن ، و التي نتجت من إيمانه بأن هناك حياة ثانية
أبدية بعد الموت و أن الملوك ( المتوفين ) سوف ينتقلون إلى الخلود في صورة نجم أو
في صورة رب الشمس وتمخضت عن هذه الفكرة أحد عجائب الدنيا السبع القديمة و هي
اﻷهرامات و هذا يمثل الامتزاج الواضح بين العمل و العبادة.
و هناك العديد من
الحضارات المعمارية التي نشأت تحت ظلال اﻷديان السماوية و كمثال أول العمارة
القوطية ، و قد خصيت عمارة الكنيسة القوطية بالذكر و ذلك ﻷنها من أعظم ما
قدم التاريخ المعماري في أوروبا بما يمتاز به هذا الطراز من علو و رشاقة و جودة
معمارية لدرجة اعتباره رمز لملكوت الله على اﻷرض ، و قد نشأ هذا الطراز في بداية
القرن الثاني عشر الميلادي و قدم ابتكارا انشائيا كبيرا حيث طور طريقة نقل اﻷحمال
من السقف إلى أعمدة خارجية أطلق عليها ( المساند الطائرة ) و بالتالي فتح نوافذ
كبيرة و إضاءة الكنيسة بشكل أفضل و الذي لم يكن موجود في السابق و هو من
ركائز الديانة المسيحية حيث يمثل دخول الضوء المقدس إلى داخل الكنيسة تعبيرا عن
دخول رمز الإله إلى النفس البشرية و هذا ما قدمته العمارة ( العمل المتقن ) للوصول
إلى المفهوم الحقيقي للعبادة
.
و نأخذ كمثال ثاني العمارة الإسلامية ، و هنا نجد ان
هناك علاقة واضحة بين العمل المقدم للعبادة و لا يقتصر ذلك على بناء المساجد فقط و
لكنه امتد إلى بناء الحمامات العامة ( عمل ) و ذلك للاغتسال و الحفاظ على الطهارة
( فقه عبادة ) و السبل و اﻷوقاف من مدارس و بيمارستات ، و إذا أردت أن تشعر بالعمل
المقدم للعبادة فعليك زيارة شارع المعز بالقاهرة ، و الذي ترى فية قمة الحضارة
مرورا بضخامة جامع الحاكم و جمال واجهة جامع الأقمر و دقة تفاصيل سبيل عبدالرحمن
كتخدا و هندسة قبة مجموعة قلاوون و غيرها.
ولا أريد أن أغفل في مقالي بعض المدارس المعمارية
الحديثة و التي أخرجت لنا عمارة معاصرة نتيجة إيمانها بالفلسفة الوجودية و التي
تتعارض مع اﻷديان السماوية و فكرة وجود الإله و قد تميزت بأشكالها و خاماتها
المعاصرة مثل العمارة التفكيكية و العدمية و التي في رأيي اشتهرت تحت شعار
" و بالضد تتميز اﻷشياء " ، و بين هذه و تلك مدارس معمارية لمع نجمها في
عصر ما تلبية لاحتياجاته ثم خفت ثانية بانتهاء عصره و أطلق عليه موضة معمارية.
فإذا اعتبرنا أن العمل و العبادة مقياس لبعضهما البعض ،
بمعنى أنه إذا ارتفعت العبادة ارتقي العمل و ازدهر ، و إذا ازدهر العمل ظهرت أخلاق
العبادة و ليس بالضرورة العبادة ، أما إذا اختل أحدهما فإن اﻵخر يختل بدوره ،وأود
أن أوجه رسالتي إلى المعماريين المصريين و العرب و اللائي أتشرف أنني أعرف منهم
الكثير على خلق و دين ( عبادة ) و لا أشكك في هذا أبدا و لكنني أطرح تساؤلا ، أين
حضارتكم؟ أين عمارتكم ؟ أين شق الجملة الآخر ؟ و إن كان غير موجود فهل السبب أننا
لا ندرك المفهوم الحقيقي للعبادة أم فقدنا تديننا الفطري أم فقدنا وسطيتنا
المعهودة، و أخيرا أوجه لكم نصيحة واحدة " تمر ...... و لله الأمر ".
د.م/أحمد
فوزي
http://www.palm-studios.com/
حساب الاكاديمية على اليو تيوب (نرجو عمل subscribe لمعرفة احدث اعمالنا اول باول(
https://www.youtube.com/user/ThePalmStudio
حساب الاكاديمية على تويتر
https://twitter.com/Palm_Studio
حساب الاكاديمية على الفيس بوك (نرجو عمل like لمعرفة احدث اعمالنا اول باول(
https://www.facebook.com/palmacademy
للاراء و المقترحات نرجو التواصل على
http://www.palm-studios.com/contact-us
حساب الاكاديمية على اليو تيوب (نرجو عمل subscribe لمعرفة احدث اعمالنا اول باول(
https://www.youtube.com/user/ThePalmStudio
حساب الاكاديمية على تويتر
https://twitter.com/Palm_Studio
حساب الاكاديمية على الفيس بوك (نرجو عمل like لمعرفة احدث اعمالنا اول باول(
https://www.facebook.com/palmacademy
للاراء و المقترحات نرجو التواصل على
http://www.palm-studios.com/contact-us