دائما ما أتخذت والدي – حفظه الله – مثال وقدوة فى حياتي
ودراستي و يعتبر هو السبب الأول لامتهاني مهنة الهندسة المعمارية والتي هي أيضا
وظيفته، منذ أن كنت صغيرا تأثرت برسوماته الهندسية والتي كان يستخدم فيها أدوات
الرسم التقليدية وخصوصا رسمه للكتل المنظورية باستخدام طريقة المنظور ذي نقطتي تلاشي، و أكاد أدعي أنني الطفل الوحيد
فى مرحلة الابتدائية الذي تحتوي رسوماته على مزيج غريب من المباني ثلاثية الأبعاد
باستخدام المنظور ذي النقطتين فى الخلفية و باقي عناصر اللوحة ثنائية الأبعاد دون
أي إحساس فراغي أو ظلال.
وبعد دخولي قسم العمارة بكلية الهندسة أعتقدت أنني حققت
حلمي باتباع خطوات والدي الدراسية عدا شئ واحد وهو مشروع التخرج والذي كان والدي
دائم التباهي به و بتقديره الجيد، مشروع تصميم مستشفى، وعندما وصلت إلى مرحلة البكالوريوس
وبدون تردد كان أول اختياراتي هو مشروع المستشفى وكان من حسن حظي أن هناك حرية لاختيار
مشروع التخرج فى ذلك الوقت ، وذهبت إلى أستاذي المسئول و الذي كان واحدا من
الخبراء فى هذا المجال ولكنني فوجئت برفض المشروع بشكل نهائي وعلي التفكير فى
مشروع آخر والسبب ببساطة صعوبة المشروع وأنني لن أحصل على تقدير مرتفع فيه وبدون
نقاش عدت إلى بيتي بخفي حنين وظل هذا التساؤل فى ذهني ولم أجد له إجابة فى ذلك
الحين وهو لماذا ؟؟
عندما بدأت حياتي العملية كنت أستمع إلى بعض العبارات
التثبيطية الأخرى وعلى سبيل المثال: "مشروعات المستشفيات ليها ناسها" أي
أن هناك مكاتب هندسية متخصصة لتصميم مثل هذا المشروع ، وبالقياس فهناك العديد من
المشروعات التي يتجنبها المعماريين مثل المتاحف والمسارح أو حتى المشروعات المركبة
Complex Buildings والتي تحوي العديد من الوظائف في آن واحد ، بل
أجد أن هناك من كبار المعماريين يكررون نفس العبارة و يرسخونها فى آذان صغار
المصممين وبالتالي أصبحت شبه القاعدة العامة ومن هنا بدأت أفكر للمرة الثانية
لماذا ؟؟ وكان علي أن أجد إجابات مقنعة لي
وللآخرين كمحاولة للتخلص من هذة العقدة ولكن قبل سرد الإجابة على هذا التساؤل
دعوني أقدم التحليل التالي:
بكل بساطة مشروعات المستشفيات أو المتاحف هى عبارة عن
مشروعات وظيفية بشكل كبير أي تنتمي إلى المدرسة الوظيفية فى التصميم Functionalism
in Architecture
بمعنى أن هناك مسارات حركة ثابتة ومحددة يجب أن يسلكها مستخدمي المبنى وهم فى
الأغلب نوعين أحدهما المواطنين والأخرى العاملين ، كل منهما منفصل وكليهما متصل
بالإضافة إلى الأجهزة والمعدات المستخدمة . وحسب خبرتي فى مجال التصميم فإن
المشروعات الوظيفية من أسهل المشاريع التصميمية بشرط أن تدرك التفاصيل الدقيقة للوظيفة
ومسارات الحركة والأثاث المستخدم ، ولكي تدرس وظيفة المبنى فهناك طريقتين لا ثالث
لهما ؛ الأولى هى تراكم الخبرات من مراجع أو مخططات لمشاريع سابقة أو معماريين
خاضوا تجربة تصميم مثل هذة المشاريع وهذة الطريقة غير متوفرة فى وطننا العربي للأسباب
التالية بدون ترتيب وهى: مراجع عتيقة منذ أواخر عصر النهضة أو حديثة باهظة الأسعار
و غير متوفرة أو غير كاملة من خلال شبكة الإنترنت أو مخططات غير موجودة و الأهم
بخل المعماريين فى نقل المعلومة وقد تحدثنا من قبل فى ذلك.
أما الطريقة الثانية فهى من خلال التجربة العملية للمبنى
والتى تكون سهلة فى الشق الخاص بالمواطنين المستخدمين للمبنى واللائي لا يوجد قيود
على حركتهم داخل الفراغات العامة للمبنى ، وكمثال لمشروع المستشفى والذى تناولناه
خلال المقال يكون مسار حركة المرضى والزائرين هو المتاح وتستطيع معرفته وتصميمه بسهولة
أما الجزء الخاص بالعاملين فتجد أبواب مغلقة و عليها لافتة بألوان مختلفة ورموز
أحيانا موضح عليها عبارة ( ممنوع الدخول لغير العاملين – العاملين فقط – STUFF
ONLY ) وكثيرا ما اصطدمت بمثل هذه العبارة والتى
أراها من أهم الأسباب لعدم قدرة المعماريين على تصميم الخدمات الخلفية ( ما وراء
الكواليس ) والتى تحتوي على حياة خدمية موازية من مسارات حركة ومعدات وأجهزة وغيرها
من التجهيزات وأستطيع أن أضع قاعدة هنا كلما زادت الخدمات الخلفية المغلقة كلما
ازداد جهل المصممين بالمبنى وابتعادهم عن تصميمه، وكلما قلت أو اختفت المناطق
الخدمية زاد إقبال المصممين عليها وخصوصا حديثي الخبرة وتجدها جلية بوضوح فى
المشروعات السكنية ، وبالتالي فإن لوحة ممنوع الدخول لغير العاملين هي أخطر ما يقابل
المصممين فى حياتهم العملية.
أعلم أن هناك بعض دواعي للأمن
والسلامة لمثل هذة المناطق الخدمية ولكن ، دعونا نتخيل اختفاء مثل هذا الحظر
للمصممين فقط وليس لكل الفئات فسنجد كمرحلة أولى: تعليم سليم وأقصد هنا إدراك
المصمم لهذه الفراغات ومسارات الحركة داخلها بل تطويرها طبقا لاحتياج مستخدميها
وأيضا معرفة التجهيزات الإلكتروميكانيكية المختلفة وشروطها ودواعيها التصميمة والأهم
من ذلك أن هذة الخبرة في أيام معدودة ليس
من خلال تواجده فى الموقع أثناء تنفيذ أحد هذه المشروعات والتي لا تقل عن خمس
سنوات ، أما المرحلة التانية: فهي الحصول على تصميمات صحيحة ويدرك هذة المرحلة
القائمين على تنفيذ مثل هذه المشاريع من أخطاء تصميمية معمارية فادحة والتي يصعب
تدراكها بعد البدء الفعلي فى تنفيذ المشروع ، أما المرحلة الثالثة: فهي إيجاد
الحلول التصميمية الجديدة والمبتكرة والتي بدأت في كل العالم المتقدم والتي ترتبط
فى هذة المشاريع الوظيفية بالخدمات وتطور أجهزتها وأبعادها وليست فى الوظيفة ذاتها
والتي ستظل ثابتة .
وأخيرا المرحلة الرابعة: وأطلق
عليها مرحلة البومبيدو تيمنا بالمركز الوطني للفنون والثقافات مركز جورج بومبيدو Centre Pompidou فى مدينة باريس الفرنسية وينتمي هذا المبنى إلى طرز الهاي-تك High-Tech Modern وكان التصميم المعماري غريب فى ذلك الوقت ويدل
على إدراك المصممين ( رينزو بيانو الإيطالي وريتشارد روجرز البريطاني ) بخدمات
المبنى بشكل غير مسبوق حيث يوضع ما يوجد عادة في الداخل خلف لوحة ( ممنوع
الدخول لغير العاملين ) خارج هيكل المبنى ذاته. أى أن أنابيب التهوية، والكهرباء
والمصاعد الكهربائية والسلالم الآلية ظاهرة، تأخذ مكانها بوضوح على واجهات الهيكل
المعدني للمبنى. وتتميز كل واحدة منها بلون ،فاللون الأزرق لأنابيب التهوية،
والأصفر للكهرباء والأخضر للمياه، وكانت مفاجئتي عند زيارة هذا المبنى أن الزائرين
يفضلون الجلوس فى الساحة الأمامية للمبنى وليس داخل المبنى بمعنى آخر يستمتعون بالجلوس
أمام السلالم الخدمية ومواسير التهوية و التغذية والصرف وهذا قمة ما أسعى أن أقدمه
فى كتاباتي هذه ؛ كيف يستطيع أن يحول المصمم الشئ المختفي غير المرغوب إلى شئ جميل
وعمل فني رائع ؟ أعتقد أنه يجب عليه المرور على المراحل السابقة.
المركز الوطني للفنون والثقافات مركز
جورج بومبيدو
أتذكر أنه أيام الجامعة كانت بطاقة التعريف الخاصة
بالجامعة (الكارنية) تتيح الدخول إلى كل المتاحف بدون رسوم و أيضا أثناء الدراسات الميدانية
والرفوعات المساحية كانت الجامعة تعطي للطلبة تصريح للرفع والتصوير وكان يحترم من
قبل الجهات المسئولة عند حدوث المشكلات، وبالمثل أود أن أطرح حل لهذه المشكلة بأن
يكون هناك نوع من التصاريح من الوزارات المختصة والموافقات الأمنية والتي من
خلالها يستطيع المصمم زيارة مثل هذة الأماكن مع توفير بالطبع اشتراطات الأمن
والسلامة اللازمين، وأتمنى أن يكون هذا سببا فى تقدم المهنة وتطور المصمين العرب و
التصميمات الهندسية المعمارية بشكل عام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق